فصل: تفسير الآيات (7- 13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.سورة الإنسان:

مكية، وهي ألف وأربع مائة وخمسون حرفاً، ومائتان وأربعون كلمة، وإحدى وثلاثون آية.
أخبرني نافل بن راقم قال: حدّثنا محمد بن شادة قال: حدّثنا أحمد بن الحسن قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا مسلم بن قتيبة عن شعبة عن عاصم عن زرّ عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريراً».
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 6):

{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)}
{هَلْ أتى} قد أتى {عَلَى الإنسان} آدم عليه السلام، وهو أول من سمّي به {حِينٌ مِّنَ الدهر} أربعون سنة ملقى بين مكة والطائف قبل أن ينفخ الروح فيه {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به، وروى أن عمر سمع رجلا يقول: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} فقال عمر: ليتها تمت، وقال عون بن عبد الله: قرأ رجل عند ابن مسعود الآية فقال: إلاّ ليت ذلك.
{إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان} يعني ولد آدم {مِن نُّطْفَةٍ} يعني من منيّ الرجل ومنيّ المرأة، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، كقول عبد الله بن رواحة: هل أنت إلاّ نطفة، وجمعها نطاف ونُطف، وأصلها من نطف إذا قطر. {أَمْشَاجٍ} أخلاط، واحدها مشج مشيج مثل حذن وحذين قال رؤبة:
يطرحن كلّ معجّل نسّاج ** لم يكس جلداً في دم أمشاج

ويقال مشجت هذا بهذا أي خلطته فهو ممشوج ومشج، مثل مخلوط وخليط، قال أبو دوم:
كأن الريش والفوقين منه ** خلاف النصل سبطيه مشيج

قال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد والربيع: يعني ماء الرجل وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما جميعاً الولد، وماء الرجل أبيض غليط وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا صاحبه كان الشبه له، وقال قتادة: هي أطوار الخلق: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم لحماً ثم عظاماً ثم يكسوه لحماً ثم ينشئه خلقاً آخر.
وقال الضحاك: أراد اختلاف ألوان النطفة نطفة، الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وحمراء فهي مختلفة الألوان، وهي رواية الوالي عن ابن عباس وابن أبي نجح عن مجاهد، وكذلك قال عطاء الخراساني والكلبي: الأمشاج الحمرة في البياض والبياض في الحمرة أو الصفرة.
وقال عبد الله بن مسعود وأسامة بن زيد: هي العروق التي تكون في النطفة، وروى ابن جريح عن عطاء قال: الأمشاج الهن الذي كإنه عقب، وقال الحسن: نعم والله خلقت من نطفة مشجت بدم وهو دم الحيضة فإذا حبلت أرفع الحيض، وقال يمان: كل لونين اختلطا فهما أمشاج، وقال ابن السكيت: الأمشاج: الأخلاط، لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان ذا طبائع مختلفة، وقال أهل المعاني: بناء الأمشاج بناء جمع وهو في معنى الواحد لأنه نعت النطفة وهذا كما يقال: برمة أعشار وثوب أخلاق ونحوهما.
وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: سُئلت وأنا بمكّة عن قول الله سبحانه: {أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ} فقلت ابتلى الله الخلق تسعة أمشاج: ثلاث مفتنات وثلاث كافرات وثلاث مؤمنات، فأما الثلاث المفتنات فسمعه وبصره ولسانه، وأما الثلاث الكافرات فنفسه وهواه وشيطانه، وأما الثلاث المؤمنات فعقله وروحه وملكه، فإذا أيّد الله العبد بالمعونة فقرّ العقل على القلب فملكه واستأسرت النفس والهوى فلم يجد إلى الحركة سبيلا، فجانست النفس الروح وجانس الهوى العقل وصارت كلمة الله هي العليا: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193].
{نَّبْتَلِيهِ} نختبره بالأمر والنهي وقال بعض أهل العربية: هي مقدمة معناها التأخير مجازها: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} لنبتليه؛ لأن الابتلاء لا يقع إلاّ بعد تمام الخلقة. {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} أي بيّنا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة وعرّفناه طريق الخير والشرّ وهو كقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} [البلد: 10]. {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} أما مؤمناً سعيداً وأما كافراً شقيّاً يعني خلقناه أما كذا وأما كذا، وقيل معنى الكلام: الجزاء، يعني بيّنا له الطريق إن شكر وكفر، وهو إختيار الفرّاء، ثم بين الفريقين فقال عز من قال: {إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ} كل سلسلة سبعون ذراعاً.
{وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً} قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم عن حفص والأعمش والكسائي وأيوب كلهن: {سَلاَسِلاً} بإثبات الألف في الوقف والتنوين في الأصل، وهو اختيار أبي عبيد، ورواية هشام عن أهل الشام، ضده حمزة وخلف وقنبل ويعقوب برواية [.....] وزيد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: قواريراً الأولى بالألف والثاني بغير ألف.
قال أبو عبيد: ورأيت في مصحف الإمام عثمان {قَوَارِيرَاْ} الأولى بالألف مبنية والثانية كانت بالألف فحكّت، ورأيت أثرها بيّنا هناك.
{إِنَّ الأبرار} يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربّهم، وقال الحسن: هم الذين لا يؤذون الذر ولا ينصبون الشرّ، وأحدهم بار، مثل شاهد وأشهاد وناصر وأنصار وصاحب وأصحاب ويراد بها مثل نهر وأنهار وضرب وأضراب.
{يَشْرَبُونَ} في الآخرة {مِن كَأْسٍ} خمر {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} قال قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك، وقال عكرمة: مزاجها طعمها، وقال أهل المعاني: أراد كالكافور في بياضه وطيب ريحه وبرده، لأن الكافور لا يشرب، وهو كقوله: {حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} [الكهف: 96] أي كنار، وقال ابن كيسان: طيّبت بالكافور والمسك والزنجبيل، وقال الفرّاء: ويقال: إنّ الكافور اسم لعين ماء في الجنة، وفي مصحف عبد الله من كأس صفراء كان مزاجها قافورا والقاف والكاف يتعاقبان؛ لانّهما لهويتان، وقال الواسطي: لمّا اختلفت أحوالهم في الدنيا اختلفت أشربتهم في الآخرة فكأس الكافور برّدت الدنيا في صدورهم.
{عَيْناً} نصب لأنها تابعة للكافور كالمفر له وقال الكسائي: على الحال والقطع، وقيل: يشربون عيناً، وقيل من عين، وقيل: أعني عينا، وقيل: على المدح وهي لهذه الوجوه كلّها محتملة.
{يَشْرَبُ بِهَا} أي شربها والباء صلة وقيل منها. {عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} أي يقودونها حيث شاءوا من منازلهم وقصورهم كما يفجر الرجل منكم النهر يكون له في الدنيا هاهنا وهاهنا إلى حيث يريد.

.تفسير الآيات (7- 13):

{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)}
{يُوفُونَ بالنذر} قال قتادة: بما فرض الله سبحانه عليهم من الصلاة والزكاة والحج والعمرة وغيرها من الواجبات، وقال مجاهد وعكرمة: يعني إذا بدروا في طاعة الله وفوا به. {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} ممتداً قاسيا يقال استطار الصدع في الزجاجة واستطال إذا امتد، ومنه قول الأعشى:
وبانت وقد أُسأرت في الفؤاد ** صدعاً على نأيها مستطيراً

{وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ} قال ابن عباس: على قلّته وحسبهم أياه وشهوتهم له، وقال الداري: على حبّ الله، وقال الحسين بن الفضل: على حبّ إطعام الطعام. {مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} وهو الحربي يؤخذ قهراً أو المسلم يحبس بحق. قال قتادة: بعد أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم، وأنّ أسراءهم يومئذ لأهل الشرك فأخوك المسلم أحقّ أن تطعمه، وقال مجاهد وسعيد بن جبير وعطا: هو المسجون من أهل القبلة. أخبرني الحسن قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن ناجية قال: حدّثنا عباد بن أحمد العرزمي قال: حدّثنا عمي عن أبيه عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ مِسْكِيناً} قال: «فقيراً» {وَيَتِيماً} قال: «لا أب له» {وَأَسِيراً} قال: «المملوك والمسجون»، وقال أبو حمزة الثمالي: الأسير المرأة، ودليل هذا التأويل قول النبي عليه السلام: «استوصوا بالنساء خيراً فإنّهن عندكم عوان».
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً} فيه وجهان: أحدهما أن يكون جمع الشكر كالفلوس بجمع الفلس، والكفور بجمع الكفر، والآخران يكون بمعنى المصدر كالفعول والدخول والخروج.
قال مجاهد وسعيد بن جبير: أمّا أنهم ما تكلموا به، ولكن علمه الله من قلوبهم فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب.
{إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً} في يوم {عَبُوساً} تعبس فيه الوجوه من شدّته وكثرة مكارهة فنسب العبوس إلى اليوم كما يقال: يوم صائم وليل نائم، وقال ابن عباس: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، وقيل: وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدّة والهول كالرجل الكالح البائس.
{قَمْطَرِيراً} روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل. الكلبي: العبوس: الذي لا انبساط فيه والقمطرير: الشديد. وقال قتادة ومجاهد ومقاتل: القمطرير: الذي يقلّص الوجوه ويقبض الحياة وما بين الأعين من شدته. قال الأخفش: القمطرير أشدّ ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء يقال: يوم قمطرير وقماطر إذا كان شديداً لكربها. قال الشاعر:
ففرّوا إذا ما الحرب ثار غبارها ** ولج بها اليوم العبوس القماطر

وأنشد الفرّاء:
بني عمّنا هل تذكرون بلانا ** عليكم إذا ما كان يوم قماطر

وقال الكسائي: أقمطرّ القوم وأزمهرّ أقمطراراً وازمهراراً وهو الزمهرير والقمطرير، ويوم مقمطر إذا كان صعباً شديداً. قال الهذلي:
بنو الحرب أرضعنا لهم مقمطرّة ** فمن تلق منا ذلك اليوم يهرب

{فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم} الذي يخافون {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً} في وجوههم {وَسُرُوراً} في قلوبهم {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} على طاعة الله وعن معصيته، وقال الضحاك: على الفقر. القرطبي: على الصوم. عطاء: على الجوع.
وروي سعيد بن المسيب عن عمر قال: سئل رسول الله عليه السلام عن الصبر فقال: «الصبر أربعة أولها الصبر عند الصدمة الأولى والصبر على أداء الفرائض، والصبر على اجتناب محارم الله، والصبر على المصائب» {جَنَّةً وَحَرِيراً} قال الحسن: أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير. {مُّتَّكِئِينَ} نصب على الحال {فِيهَا} في الجنة {على الأرائك} السرر في الحجال لا تكون أريكة إذا اجتمعا. قال الحسن: وهي لغة أهل اليمن كان الرجل العظيم منهم يتخذ أريكة فيقال: أريكه فلان.
وقال مقاتل: الأرائك: السرر في الحجال من الدر والياقوت موضونة بقضبان الذهب والفضة وألوان الجواهر. {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} أي شتاء ولا قيضاً.
قال قتادة: علم الله سبحانه أن شدّة الحر تؤذي وشدة القرّ تؤذي فوقّاهم الله أذاهما جميعاً، وقال مرة الهمداني: الزمهرير البرد القاطع. مقاتل بن حيّان: هو شي مثل روس الابر ينزل من السماء في غاية البرد. ابن سمعود: هو لون من العذاب وهو البرد الشديد.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا بكر أحمد بن عمران السوادي يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلب وسئل عن قوله: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} قال الزمهرير القمر بلغة طي. قال شاعرهم:
وليلة ظلامها قد اعتكر ** قطعتها والزمهرير ما زهر

أي لم يطلع القمر.
واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآيات فقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكيناً ويتيماً وأسيراً وكانت قصته.
أخبرنا ابن فتجويه قال: حدّثنا محمد بن خلف بن حيّان قال: حدّثنا إسحاق بن محمد بن مروان قال: حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدّثنا على بن علي بن أبي حمزة الثمالي قال:بلغنا أن مسكيناً أتى رسول الله عليه السلام فقال: يا رسول الله أطعمني فقال: «والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب» فأتى رجلاً من الأنصار وهو يتعشى وامرأته فقال له: أني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: أطعمني فقال: ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب، فقال: الأنصاري لأمرأته: ما ترين؟ فقالت: أطعمه وأسقه ثم أتى رسول الله عليه السلام يتيم فقال يا رسول الله أطعمني فقال: «ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب» فأتى اليتيم الأنصاري الذي أتاه المسكين فقال له: أطعمني فقال لامرأته: ما ترين؟ قالت: أطعمه فاطعمه، ثم أتى رسول الله عليه السلام أسير فقال: يا رسول الله أطعمني، فقال: «والله ما معي ما أطعمك ولكن أطلب» فأتى الأسير الأنصاري فقال له: أطعمني، فقال: لامرأته ما ترين فقالت: أطعمه، وكان هذا كلّه في ساعة واحدة، فأنزل الله سبحانه فيما صنع الأنصاري من إطعامه المسكين واليتيم والأسير {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً}.
وقال غيرهما: نزلت في علي بن أبي طالب وفاطمة وجارية لهما يقال لها فضة وكانت القصة فيه.
وأخبرنا الشيخ أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن علي الشيباني العدل قراءة عليه في صفر سنة سبع وثمانين وثلثمائة قال: أخبرنا ابن الشرقي قال: حدّثنا محبوب بن حميد النصري قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبدالوهاب الخوار ابن عم الأحنف بن قيس سنة ثمان وخمسين ومائتين وسأله عن هذا الحديث روح بن عبادة قال: حدّثنا القيم بن مهرام عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني قال: حدّثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن سهيل بن علي بن مهران الباهلي بالبصرة قال: حدّثنا أبو مسعود عبدالرحمن بن فهد بن هلال قال: حدّثنا الغنيم بن يحيى عن أبي علي القيري عن محمد بن السائر عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أبو الحسن بن مهران وحدّثني محمد بن زكريا البصري قال: حدّثني سعيد بن واقد المزني قال: حدّثنا القاسم بن بهرام عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله سبحانه وتعالى {يُوفُونَ بالنذر وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} قال: مرض الحسن والحسين فعادهما جدّهما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعادهما عامّة العرب فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذراً وكل نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء.
فقال علي رضي الله عنه: إن برأ ولداي مما بهما صمتُ ثلاثة أيام شكراً، وقالت فاطمة رضي الله عنها: إن برأ ولداي مما بهما صمت لله ثلاثة أيام شكراً ما لبس الغلامان العافية، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق علي رضي الله عنه إلى شمعون بن جابا الخيبري، وكان يهودياً فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير، وفي حديث المزني عن ابن مهران الباهلي فانطلق إلى جار له من اليهود يعالج الصوف يقال له: شمعون بن جابا، فقال: هل لك أن تعطيني جزّة من الصوف تغزلها لك بنت محمد صلى الله عليه وسلم بثلاثة أصوع من الشعير قال: نعم، فأعطاه فجاء بالسوق والشعير فأخبر فاطمة بذلك فقبلت وأطاعت قالوا: فقامت فاطمة رضي الله عنها إلى صاع فطحنته وأختبزت منه خمسة أقراص لكل واحد منهم قرصاً وصلى علي مع النبي عليه السلام المغرب، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه اذ أتاهم مسكين فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم من موائد الجنة، فسمعه علي رضي الله عنه فأنشأ يقول:
فاطم ذات المجد واليقين ** يا ابنة خير الناس أجمعين

أما ترين البائس المسكين ** قد قام بالباب له حنين

يشكوا إلى الله ويستكين ** يشكوا إلينا جائع حزين

كل امرء بكسبه رهين ** وفاعل الخيرات يستبين

موعدنا جنة عليين ** حرمها الله على الضنين

وللبخيل موقف مهين ** تهوى به النار إلى سجين

شرابه الحميم والغسلين ** من يفعل الخير يقم سمين

ويدخل الجنة أي حين

فأنشأت فاطمة:
أمرك عندي يا ابن عمّ طاعه ** ما بي من لؤم ولا وضاعه

غذيت من خبز له صناعة ** أطعمه ولا أبالي الساعه

أرجو إذ أشبعت ذا المجاعه ** أن ألحق الأخيار والجماعه

وأدخل الخلد ولي شفاعه

قال: فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح، فلمّا كان اليوم الثاني قامت فاطمة إلى صاع فطحنته فاختبزته وصلّى علي مع النبي عليه السلام، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فأتاهم يتيم فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، يتيم من أولاد المهاجرين، استشهد والدي يوم العقبة، أطعموني أطعمكم الله على موائد الجنة فسمعه علي رضي الله عنه فأخذ يقول:
فاطم بنت السيد الكريم ** بنت نبي ليس بالزنيم

لقد أتى الله بذي اليتيم ** من يرحم اليوم يكن رحيم

موعده في جنّة النعيم ** قد حرّم الخلد على اللئيم

ألا يجوز الصراط المستقيم ** يزل في النار إلى الجحيم

فأنشأت فاطمة:
أطعمه اليوم ولا أبالي ** وأوثر الله على عيالي

أمسوا جياعاً وهم أشبالي ** أصغرهم يقتل في القتال

بكربلا يقتل باغتيال ** للقاتل الويل مع الوبال

تهوى به النار إلى سفال ** وفي يديه الغل والأغلال

كبوله زادت على الأكبال.... قال: فأعطوه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح، فلمّا كان في اليوم الثالث قامت فاطمة رضي الله عنها إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته وصلى علي مع النبي عليه السلام ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسرونا وتشدوننا ولا تطعمونا، أطعموني فإني أسير محمد أطعمكم الله على موائد الجنة، فسمعه علي فأنشأ يقول:
فاطم يابنة النبي أحمد ** بنت نبي سيد مسوّد

هذا أسير للنبي المهتد ** مكبّلٌ في غلّه مقيّد

يشكو إلينا الجوع قد تمدد ** من يطعم اليوم يجده من غد

عند العلي الواحد الموحّد ** ما يزرع الزارع سوف يحصد

فأنشأت فاطمة تقول:
لم يبق مما جاء غير صاع ** قد ذهبت كفي مع الذراع

ابناي والله من الجياع ** يارب لا تتركهما ضياع

أبوهما للخير ذو اصطناع ** يصطنع المعروف بابتداع

عبل الذراعين طويل الباع ** وما على رأسي من قناع

إلاّ قناعاً نسجه انساع

قال: فاعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح فلما أن كان في اليوم الرابع وقد قضوا نذرهم أخذ علي رضي الله عنه بيده اليمنى الحسن وبيده اليسرى الحسين وأقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع فلمّا نضر به النبي عليه السلام قال: «يا أبا الحسن ما أشدّ ما يسؤني ما أرى بكم، أنطلق إلى ابنتي فاطمة» فانطلقوا إليها وهي في محرابها وقد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها، فلما رأها النبي عليه السلام قال: «واغوثاه بالله، أهل بيت محمد يموتون جوعاً» فهبط جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد خذها، هنّأك الله في أهل بيتك قال: «وما أخذنا يا جبرائيل» فاقرأه {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} إلى قوله: {وَلاَ شُكُوراً} إلى آخر السورة.
قتادة بن مهران الباهلي في هذا الحديث: فوثب النبي عليه السلام حتى دخل على فاطمة فلما رأى ما بهم انكب عليهم يبكي، ثم قال: أنتم من منذ ثلاث فيما أرى وأنا غافل عنكم، فهبط جبرائيل عليه السلام بهذه الآيات {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} قال: هي عين في دار النبي عليه السلام تفجر إلى دور الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين.
{يُوفُونَ بالنذر} يعني علياً وفاطمة والحسن والحسين وجاريتهم فضة {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ} يقول على شهوتهم للطعام، وإيثارهم مسكيناً من مساكين المسلمين ويتيماً من يتامى المسلمين، وأسيراً من أسارى المشركين، ويقولون إذا أطعموهم {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} قال: والله ما قالوا لهم هذا بألسنتهم، ولكنهم أضمروه في نفوسهم، فأخبر الله سبحانه بإضمارهم يقولون: لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً، فيتمنون علينا به ولكنا أعطيناكم لوجه الله وطلب ثوابه قال الله سبحانه: {فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً} في الوجوه {وَسُرُوراً} في القلوب {وَجَزَاهُمْ} بما صبروا {جَنَّةً} يسكنونها {وَحَرِيراً} يلبسونه ويفترشونه {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً}.
قال ابن عباس: وبينا أهل الجنة في الجنة إذا رأوا ضوءاً كضوء الشمس وقد أشرقت الجنان لها فيقول أهل الجنة: يا رضوان قال: ربّنا عزّوجل {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} فيقول: لهم رضوان: ليست هذه بشمس ولا قمر ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا ضحكاً أشرقت الجنان من نور ضحكهما، وفيهما أنزل الله سبحانه: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} إلى قوله: {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً}.
وأنشدت فيه:
أنا مولى لفتى ** أنزل فيه هل أتى

وعلى هذا القول تكون السورة مدنية، وقد اختلف العلماء في نزول هذه السورة فقال مجاهد وقتادة: هي كلّها مدنية، وقال الحسن وعكرمة: منها آية مكيّة وهي قوله سبحانه: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} والباقي مدني، قال الآخرون: هي كلّه مكيّة والله أعلم.